شيخ
العرب فرحات بن سعيّد
هو فرحات
بن أحمد بن محمد السخري المدعو فرحات بن سعيّد، وكني بهذا
الاسم نسبة إلى عمه الذبّاح بن سعيّد بن السخري2 الذي أنشأه
في بيته مع أبنائه في سيدي خالد.
ولد سنة
1786 وتقلد مشيخة العرب سنة 1821م في واحة سيدي خالد، حيث
قدمت إليها وفود القبائل العربية يبايعونه على السمع والطاعة.
وكان
أبوه أحمد السخري في حياته متزوجا بامرأتين، إحداهما أم
هاني بنت رجب باي قسنطينة وهي
الأرملة السابقة لأخيه ابن القيدوم بن محمد السخري ولها من هذا الأخير أربعة أولاد، أما الزوجة الثانية فهي
رجراجة بنت الشيخ بن الحدّاد شيخ الزاوية الرحمانية في مجّانة ببلاد القبائل
الصغرى، ولها منه محمد وفرحات بن سعيّد وفاطمة البلّيليّة
زوجة سلطان توقرت بن جلاب الخازن، وقد استقرت رجراجة في واحة سيدي خالد بعد وفاة زوجها سنة 1790م حيث كانت قبل
هذا القدوم في واد ريغ.
وقد أمضى
فرحات بن سعيّد سنوات عديدة في واد ريغ متزعما الطرود، وساعد
خـتنه سلطان تقرت ابن جلاب الخازن سنة 1814م على الاستيلاء
على مدينة تقرت.
"ولم
تكن الشعبية تنقص فرحات بن سعيّد، لأن خصاله كانت تستهوي
الناس وتأخذ بمجاميع قلوبهم، ومع أنه كان قصير القامة، إلا أن صدره البارز يجعله يظهر
وهو ممتطيا صهوة جواده طويلا جدا. وكان يرتدي ثيابا بسيطة،
وكان كلما سئل عن ذلك مقارنة بما يرتديه بن قانة من الثياب الفاخرة، يجيب بأن الثياب الجميلة للنساء، أما
جمال الرجل فيكمن في ذراعه وكلمته".
وسئل
ذات مرة عن حذقه في الرماية بالبندقية، وهل هو أحسن من ابن عمه ابن براهيم الذي انشق عنه إلى صف بن قانة،
فقال " لا أدرى، قد أستطيع قتله في المعركة مثلما أنه يستطيع أن يقتلني ولست أعلم
كيف أسدد من بعيد، ولكنني ، في المعركة، لم أرمي قط دون أن أصيب عدوي".
وكان
لفرحات تنظيم عسكري بارع لا يخونه في المعركة مطلقا، وكان شجاعا مقداما كريما ومتواضعا
وتقيا وكان يذكرنا بالأبطال الأوائل للإسلام.
ويقول
عنه الحاج أحمد باي رغم ما كان بينهما من صراع :" غير
أنني أريد أن أنصف فرحات فأقول : أنه رجل بارود وصاحب ذراع، ولقد حاربني مدة سبع سنوات،
فكان في المعركة يقابل مائة وحده ويعتبر بوعزيز الى جانبه امرأة"
ولم يكن
تقلده لمشيخة العرب سنة 1821م كما سبقت الإشارة إليه، أمرا
فرضته طبقة إقطاعية معينة ذات نفوذ4 أو سلطة حاكمة قذفت به
من لدنها لينفذ أوامرها أو يجري سياستها، بل إنه حتى لم يتقلد المشيخة
لأن أخواله من عائلة حاكمة، إذ لو كان الأمر كذلك لكانت المشيخة
أوكلت لأحد أبناء أم هاني بنت رجب باي قسنطينة، بل إن مشايخ القبائل العربية في ذلك الوقت هم من وفدوا
إليه في سيدي خالد ونصبوه شيخا لهم. "فتولى فرحات بن سعيّد زمام السلطة على رأس
جميع العرب والذواودة وازدادت سلطته نفوذا في الصحراء كلها
شمالها وجنوبها"
وكان
فرحات بن سعيّد في صراع دائم مع باي قسنطينة الحاج أحمد و"شيخ العرب"6 محمد بل الحاج بن
قانة، وجرت بينهم عدة معارك من بينها معركة البشيرة في تلاغمة سنة 1830 ومعركة الهزيمة سنة 1831 ومعركة مراح الجزية بالقرب
من مدينة بسكرة و معركة الصحيرة سنة 1837.
ومن التصرفات
التي تدلل على حنكته الحربية ومروءته ما حدث في معركة الهزيمة حيث تروى أحداث هذا اللقاء
أن فرحات ما إن اجتاز فج مُترف الذي يؤدي إلى مكان تواجد محمد بل الحاج ( بوعزيز بن قانة) حتى امتطى هذا الأخير
رفقة جيشه صهوات مراكبهم واتخذوا مواقع القتال للتصدي لفرحات، لكن فرحات أمر جيشه بأخذ
كل التدابير بحيث يعتقد عدوه أنه يريد حط الرحال وذلك بنصب الخيام وأن يكونوا على أتم
الاستعداد ينتظرون إشارته؛ ولما رأى بنو قانة أن عدوهم قد
نصب خيامه ظنوا أن المعركة سوف تكون في الغد فتفرقوا في اطمئنان تام، وبهذا تيقن فرحات
أن عدوه قد بلع الطعم فأشار إلى جيشه الذي مال على سمالة
(قبيلة) بن قانة ميلة واحدة وأنزل بهم شر هزيمة، وكانت خيام
محمد بل الحاج وزوجتيه الاثنتين من الغنائم التي استولى عليها فرحات، إلا أن مروءته
استدعته، فأكرم المرأتين وأعطاهما ألبسة فاخرة وأرسل بكلتيهما إلى زاوية سيدي بن عمر
بطولقة لكي ترجعا إلى أهليهما.
وقد بادر
فرحات بن سعيّد رفقة سي الحسين بن عزوز1 بالاتصال بالأمير
عبد القادر في المدية الذي عينه خليفة له على الصحراء، وأرسل معه خليفته السيد محمد
البركاني إلى الزيبان .فاستلم زمام الأمور ورتب العمال،
واتسع نطاق الإمارة مسيرة شهر طولا وعرضا واستقامت الأمور وتكونت الحاميات بالثغور
والتخوم وأمّنت السبل حتى أن المرأة كانت تسير من أول الإمارة الى
آخرها ولا تسأل من أين والى أين.2
وقد يُأخذ
على فرحات بن سعيّد أنه قد يكون اتصل بالسلطات الفرنسية في وقت ما باسم ناس قسنطينة وأعيانها الذين كاتبوه للتخلص من أحمد باي وبقية الأتراك الذين استأثروا بحكم قسنطينة،
كما قد يعاب عنه أن الأمير عبد القادر قد سجنه في تقداميت
لبعض الوقت لما سمع بهذا الاتصال ثم خلى سبيله، ربما لعلمه بصدق سريرته وانتفاء صفة
الخيانة من جانب فرحات، إذ لو كانت الشبهة غير ذلك لما كانت العقوبة الصادرة عن الأمير
عبد القادر لتقتصر على السجن التأديبي في حقه.ونحن هنا نلتزم
بحكم الأمير الذي كان فرحات أحد جنوده وخلفائه، وكما ورد في الأثر فإن لكل حصان كبوة.
وقد أرسله
الأمير عبد القادر سنة 1840 لنجدة مدينة سطيف رفقة أخيه
ومساعده الحاج مصطفى .
ويمكننا
أن نستنطق الأوضاع السائدة في تلك الحقبة وأن نخلص الى نتيجة
منطقية مفادها صدق طوية الشيخ وسلامة مقاصده، وذلك أن السلطات الاستعمارية كانت تترقب
كل إشارة من أي خائن كان لتغتنمها وتستقبل صاحبها بالأحضان لتضمه لصفها حتى توسع من
سلطتها وتبسط نفوذها على البلاد والعباد، وهو
التصرف الذى بدر منها مع العديد من البشاغات
وزعماء القبائل الذين كانوا عونا لها في حربها ضد الأمير عبد القادر، فلو كان فرحات
بن سعيّد من هذه الطينة لما تخلى الفرنسيون عنه ولبادروا لاحتضانه ليكون شوكة لهم في
خصر كلا من الباي أحمد والأمير عبد القادر.
ولكن
المستغرب هنا، أنه بينما تمجد الأمم والشعوب رجالها وأبطالها وتتغاضى حتى عن الأخطاء
التي ارتكبوها خلال مسيرتهم، بل إن من الأمم من تمجد مجرميها وسفاحيها وتجعل لهم التماثيل
وتسمي الشوارع والساحات بأسمائهم، نجد ألسنة السوء عندنا تتناول كل الرموز الوطنية
والدينية وتتطاول عليها بما يقال وبما لا يقال، فلم يسلم منهم لا الأمير عبد القادر
ولا فرحات بن سعيد ولا الأمام عبد الحميد بن باديس ولا مصالى الحاج ولا حتى المتأخرين من الشهداء والوطنيين الذين لولاهم
بعد الله لما نعمنا بما ننعم به اليوم من استقلال وحرية.
وكأني بهم يريدون أن يهدموا كل رمز من رموز الأمة حتى لا
يبقى لشباب الأمة منارة يهتدون بها في وسط هذا الزمان الذي
تعفن بالفتن.
مقتل
فرحات بن سعيّد
يقول
خير الدين في مذكراته أن المسمى قويدر بن نعيم البوزيدي كان يظهر الصداقة والولاء لفرحات بن سعّيد، فاتصل به وأخبره أن صديقه الشيخ عمار بن الشنيتي
مريض جدا، ويطلب زيارته في منزله، فركب فرحات إليه عشاءا، حتى إذا وصل بالقرب من خيام
ابن النعيم قام إليه احد أقاربه وطلب منه النزول عندهم قليلا ليقرأ لهم رسالة وردت
إليهم من احمد باي، وما إن بدأ في قراءتها حتى وقف رجل منهم
وراء ظهره وطعنه بخنجر بين كتفيه وأرداه قتيلا. يقول خير الدين أن بوعزيز بن قانة بادر بكتابة رسالة مؤرخة
في 20 نوفمبر 1842 الى الحاكم العام الفرنسي المريشال فالي بواسطة الجنرال نيقريي
حاكم قسنطينة ونصها : "يسرني أن أعلمكم أن فرحات بن
سعيّد خليفة الأمير عبد القادر بالصحراء قد قتل في معركة نشبت بينه وبين عرش البوازيد وقعت غربي الصحراء ، واستطاع شيخ العرب بوعزيز بن قانة أن يأخذ خاتمه وسيفه
وأرسلهما إلي، وليس عندي معلومات أخرى دقيقة في هذا الحادث " إمضاء الجنرال نيقريي
حاكم قسنطينة.
وعن ح&